في القرداحة عهد .. ولقاء

0


الجمعة 23/06/2000:

زائر القرداحة ليس كالذي لم يدخل إليها او لم يعرف طريقها او لم ير ما فيها.

هي “عرين الاسد” كما يحلو لأهلها ان يسموها، من هنا كانت انطلاقة مسيرة طويلة طويلة، توّجتها ثلاثون سنة من القيادة، هي الاطول في تاريخ حكم سوريا منذ آلاف السنين.

فكيف اذا كانت الزيارة الى العرين وهو يبكي اسده، ملتحفا السواد، مثقلا بكل ما يحمله الفراق من معان ومن آلام وحسرات؟

لا شك في ان هذه الزيارة يصبح لها وقع آخر، لا يمكن ان تتلمسه الا وأنت تسير في شوارع درج فيها الاسد شبلا ومشى كبيرا وحمل على الاكتاف مرتحلا.

انها مشاعر عصية على الاحتمال، وتصبح اكثر صعوبة مع الحدث الذي تشهده هذه المدينة، وهي تعج بالسواد، بالعمامة التي تقود، بالبذلات التي ترقد على اكتاف رجال قال الأسد عنهم انهم حققوا المعجزة.. التي كان إليها يسعى.

منذ اللحظة الاولى لملامسة تلك الارض، تحس بالالفة تغمر المكان، وكأن الجميع بالانتظار: على الشرفات، في الشوارع، الكل يتفحص الوجوه، يبحث فيها عن سر هؤلاء الذين استطاعوا ان يهزموا العدو، هذا الذي يربض فوق الارض مستحلا خيراتها وملوثا ترابها وهواءها.. وتاريخها.

انهم يدققون اكثر، ها هم مجموعة المشايخ، لا بد ان يكون بينهم: الرؤوس تتطاول.. ها هو، وتنفرج الاسارير. إذاً لقد رأيناه ـ هكذا الالسنة تلهج ـ لقد حققنا حلما كنا إليه نسعى.

وصلت القافلة الى دار العزاء.

بالاذن من الجميع.. انه وقت المقاومة الآن (وهي في القرداحة وقتها في كل وقت، ولكن ها هم قادتها وبعض من مجاهديها) فأفسحوا المجال.

القائد، والقيادة، في الصدر يقدمون ـ ويتقبلون ـ العزاء، والفريق الركن هشٌ بشٌ، برغم ثقل المناسبة وقساوة الاجواء.

انه واقف، وواحد بعد آخر يمرون، البذلة سوداء، القامة مرتفعة، واليد الى اعلى بالتحية.

عشرة، عشرون، مئة، مئتان، اكثر وأكثر، والفريق الركن واقف، لم يتعب برغم الدقائق التي زادت عن الاربعين، وكيف يتعب، وهو يلتقي بـ”بسمة الوالد”؟

حانت لحظة الوداع، اعتلى الدرج، رافق القائد الى الشارع، حيث اصطف المجاهدون، وقال الكلمة: “كما كنا فسنبقى، ولن يتغير شيء”.

انه مبدأ، عهد ، وقرار.

مرة اخرى انطلقت القافلة.. مشيا على الاقدام، الى الضريح.

المسافة طويلة، والحر شديد.

حرارة الاستقبال من الناس كانت اشد، فتحولت بردا وسلاما على السائرين، والصفوف التي وقفت على جانبي الطريق كانت اطول، فقصرت المسافة باللقاء وصار القلب يطلب المزيد.. قبل الوصول.

هناك..

هنا يرقد، فسيحة القاعة، ولكنها ضاقت بمجاهدين جاؤوا يقدمون التحية لقائد وقف معهم ونصرهم، وبباقات ورد نشرت ريحها النافذ ليطغى على كل شيء آخر.

الفاتحة .. صراط الذين أنعمت عليهم .. ولا الضالين.

بعد مسجد السيدة ناعسة، والصلاة، انتهت الزيارة، لكن اللقاء لم ينته.. إنه متواصل ما بقي الدرب.. كما قال الاسد.. الى النصر او الشهادة.

محمود ريا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.