منع المسلمين من الصيام في الصين: هذه هي الحقيقة
محمود ريا
“كيف يمكننا أن نترك الإرهابيين يدفعون قومية الويغور ذات الحضارة المجيدة نحو الظلام؟” هذه الكلمات التي وردت في رسالة قدّمها المئات من رجال الأعمال المسلمين في مدينة أروميتشي حاضرة إقليم سينكيانغ غرب الصين، تعبّر عن مدى إحساس المسلمين الصينيين من قومية الويغور، الذي يتركزون في هذه المقاطعة، بالخطر الذي بات يشكله عليهم المتطرفون الذين يحملون طروحات انفصالية ويتسلحون بالعقيدة الوهابية، والذين أخذوا يزرعون الموت والدمار في هذه المدينة نفسها، وفي غيرها من مدن الصين.
لقد كانت العلاقة بين المسلمين في غرب الصين وبين الإدارة المركزية الصينية تحمل الكثير من الشوائب على الدوام، وكان هناك العديد من المشاكل التي تعترض سبيل الوصول إلى علاقات مستقرة ومزدهرة، تعطي مسلمي الإيغور حقهم في إدارة شؤونهم في إطار الحكم الذاتي المعطى لهم، مقابل الولاء للدولة الصينية.
فمنذ عهد الزعيم الراحل ماوتسي تونغ كانت سينكيانغ عُرضة لسياسة محاربة الدين التي كان الحزب الشيوعي يتبّعها، ولم تكن الحرب على الشعائر الدينية موجهة إلى المسلمين تحديداً، وإنما شملت مختلف القوميات والعقائد، وكان نصيب المسلمين منها مثل نصيب غيرهم من الأقليات الأخرى، لا بل مثل نصيب كل أبناء الشعب الصيني الذين مُنعوا من أداء طقوسهم الدينية.
إلا أن الحملة ضد المسلمين في سينكيانغ، وفي مختلف أنحاء الصين، شهدت تصعيداً كبيراً خلال ما سمّي بـ “الثورة الثقافية” في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ووصلت الأمور إلى حد لا يطاق من التعذيب والقمع والمنع من ممارسة الطقوس الدينية وحرق المساجد والمكتبات والكتب الدينية وغير ذلك من الممارسات الإرهابية التي عمّت الصين في ذلك الحين، وكان للمسلمين حصة مميزة منها.
وبقي وضع المسلمين متدهوراً إلى أن انطلقت حركة الإصلاحات في أواخر السبعينات، حيث بدأت القيود عن ممارسة الشعائر الإسلامية تتهاوى، وأعيد إعمار المساجد التي خرّبت، وعادت حركة الحج الصينية إلى طبيعتها المفترضة شيئاً فشيئاً، ما أثار الارتياح بين المسلمين بشكل كبير.
السقطة الصينية
غير أنه في تلك الفترة بدأ تغلغل التيار الوهابي في أوساط المسلمين الصينيين، بدعم كبير من مؤسسات المملكة السعودية، وبتغاضِ غير مبرر من قبل السلطات الصينية التي تركت آلاف الدعاة ينشطون بين أكثر من عشرة ملايين صيني من قومية الويغور، سامحة لهم بتقديم الدروس وبناء المساجد وإنشاء المعاهد وطباعة الكتب ذات النَفَس التكفيري.
هذه “السقطة” الصينية كان ثمنها غالياً جداً، وبغض النظر عن الأسباب الكامنة وراءها، وسواء كان ذلك بنيّة التقرّب من العالم الإسلامي، أو الانفتاح على المسلمين الصينيين الذين عانوا من ممارسات الثورة الثقافية، فإن دخول الأفكار الوهابية إلى الشارع الإسلامي الصيني أدى إلى انبعاث المطالب الانفصالية لدى مسلمي منطقة سينكيانغ ذات الحكم الذاتي، والتي تُعرف أيضاً باسم تركستان الشرقية.
هذه المطالب الانفصالية تعززت أكثر فأكثر مع دخول المئات من الدعاة المتطرفين من أفغانستان المجاورة، في الفترة التي تلت الاجتياح السوفياتي لذلك البلد. وقد حمل هؤلاء الدعاة مفاهيم الجهاد والثورة والانفصال والسعي للانضمام إلى الأمة الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى انطلاق موجة من الاضطرابات التي جوبهت بقمع السلطات الصينية.
وبعد خفوت المطالب الانفصالية في “تركستان الشرقية” عاد المسؤولون الصينيون إلى ارتكاب الخطأ السابق نفسه، حيث كانت زيارة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الصين عام 2006 فرصة لانطلاق حملة جديدة من “التديّن الوهابي” في صفوف المسلمين الصينيين، حيث وقّعت خلال الزيارة العديد من الاتفاقيات الثقافية والدينية، والتي أدت إلى افتتاح الكثير من المعاهد التي تقوم بتدريس الإسلام على الطريقة الوهابية في مناطق غرب الصين.
وقد كان تبرير المسؤولين الصينيين لهذا الخطأ التاريخي بأن الملك عبد الله وعدهم بعدم “التبشير الديني” من خلال هذه المعاهد. وسواء صدّق المسؤولون الصينيون هذا الوعد أم لم يصدّقوا، فهم وضعوا أنفسهم وبلادهم في مسار خطير، كانت بعض نتائجه الأعمال الإرهابية التي تشهدها مناطق سينكيانغ، والعديد من المدن الصينية الأخرى.
اليوم، يتغلغل الفكر التكفيري الجهادي في صفوف بعض الشباب المتحمس في منطقة سينكيانغ، وهو الفكر الذي بات يرفض الصين ويرفض المملكة السعودية في آن معاً، والذي تبقى جذوره نابعة من معاهد التكفير الوهابية، مع تفلّت من قيود “الدولة” التي تحاول السعودية الظهور بمظهر المتمسك بها.
ومع انتشار هذا النفس التكفيري، تلجأ السلطات الصينية إلى إجراءات تحاول أن تضبط من خلالها النشاط العُنفي، ولعلّ أبرز هذه الإجراءات محاولة تقييد ممارسة الشعائر الإسلامية على نطاق واسع، وعلى رأس هذه الشعائر صيام شهر رمضان.
من المعروف أن مظاهر العودة إلى الإسلام شهدت انتشاراً كبيراً بين المسلمين الصينيين في المرحلة الأخيرة، وقد أبرزت السلطات الصينية في إعلامها هذه المظاهر في محاولة للتأكيد على انفتاحها على المسلمين الصينيين، وعلى العرب في منطقتنا، ونادراً ما تجد وسيلة إعلامية صينية ناطقة باللغة العربية لا تخصص قسماً بارزاً من مساحتها الإعلامية للحديث عن الإسلام في الصين وعن الاحتفاء بشهر رمضان المبارك، ويتم نشر الصور التي تُظهر اهتمام المسلمين الصينيين بهذا الشهر.
إلا أن هذا لم يمنع السلطات الصينية المحلية من إصدار بعض القرارات المستهجنة من فترة إلى أخرى، ومنها قرار منع بعض الشرائح الاجتماعية من صيام شهر رمضان، وعلى رأس هذه الشرائح أعضاء الحزب الشيوعي وموظفو الدولة والطلاب في المدارس.
ومع كون هذه القرارات غير مقبولة ومسيئة إلى المسلمين وإلى الصين في وقت واحد، إلا أن آلة البروباغندا الإعلامية الغربية تضخّم هذه القرارات، بحيث تصبح العناوين المثيرة والمقدمات الإخبارية المستفزة هي ديدن الوسائل الإعلامية التي جعلت قرار منع الموظفين من الصيام قراراً بمنع مسلمي الصين كلهم من الصيام، وهذا ما لم يحصل على أرض الواقع.
فالمسلمون الإيغور ما زالوا يصومون، وما زالت وسائل الإعلام الصينية تحتفي بصيامهم، ولكن أعضاء الحزب الشيوعي ملزمون بأن يكونوا بعيدين عن أي نشاط ديني، بينما موظفو الدولة والطلاب يُمنعون من الصيام بحجة أن امتناعهم عن الطعام يؤثر على نشاطهم وعلى دراستهم، وهذا التبرير لا يمكن أن ينفي صورة الحرمان من أداء الشعائر الدينية عن القرار.
إذا كانت الصين تحارب النَفَس الوهابي التكفيري الجهادي لدى شريحة من الشباب المسلمين الصينيين عبر قرارات من نوع منع الصيام، فهي تسلك طريقاً لا يوصل إلى أي نتيجة. وإنما الطريق الأنسب لمكافحة هذا التغلغل العنفي في صفوف هذه الشريحة الشبابية يكون بتوعية الشباب والانفتاح على المدارس الإسلامية المعتدلة في العالم العربي والإسلامي وإقفال المعاهد الوهابية التي تخرّج إرهابيين بهيئة دعاة، والأهم من كل ذلك دعم المعتدلين في صفوف المسلمين الصينيين. ولعلّ رسالة رجال الأعمال الصينيين التي ورد ذكرها في بداية هذا المقال هي أفضل تعبير عن المنحى الذي ينظرون من خلاله إلى الأمور، فهم ـ كما غيرهم من المسلمين ـ يرفضون أن يبقوا صامتين فيما أن “الإرهابيين يدفعون قومية الويغور ذات الحضارة المجيدة نحو الظلام”.
*نشر في موقع العهد الإخباري في 10-7-2014