الجمعة 15/09/2000 :
تلملم ساحة ما بعد الانتخابات النيابية معطياتها، وتجمع شظايا ما حطمته من مواقع وما فجرته من مفاجآت، لتتركب بها صورة المشهد التالي المركب من جملة احداث متداخلة بعضها في بعض: بدء المجلس النيابي الجديد ولايته، الاستشارات النيابية “الملزمة” تكليف رئيس الحكومة الجديد وتشكيل الحكومة المنتظرة.
واذا كان الحدث الاول ثابت المعطيات، فالنواب عرفوا، ورئيس المجلس شخّص ايضا مع عدم وجود أي مؤشرات لتغييره او حتى تغيير طاقم مكتب المجلس، فان حسابات الحكومة القادمة ما زالت ضائعة بين ما توافر من معطيات حتى الان، وما سيطرأ من ارقام وتفاصيل في الايام الثلاثين المقبلة، التي يحمل كل يوم فيها خبرا جديدا من هنا او هناك، يشكل بذاته مدخلا جديدا يفعل فعله في تغيير المعادلة، وبالتالي يربك الصورة النهائية للاستحقاق الحكومي.
عندما قال البعض ان النتائج التي افرزتها الانتخابات النيابية لا تقرر وحدها اسم رئيس الحكومة الجديد، وان هناك العديد من الامور التي تفعل فعلها في هذا الموضوع، فوجئ الكثيرون، وكانوا ما زالوا يعيشون اجواء فورة الانتصار الذي حققه “المعارضون” وعلى رأسهم رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وحليفه وليد جنبلاط في الجبل، والمتوافقون معه في الشمال وبعض البقاع، معتبرين ان الامور حسمت وان الحريري وحده هو المرشح لمنصب رئاسة الحكومة وان أي كلام غير ذلك يعتبر تشويشا واما خروجا عن الواقع.
اليوم لم يمر وقت كثير على الكلام الذي قيل يبدو ان الجميع مقتنعون فعلا بأن ما حصل في الانتخابات يؤدي دوره في تحديد رئيس الحكومة القادم، الا ان هذا الدور ليس حاسما في ظل اسباب ذاتية وموضوعية تفرض نفسها على هذا الخط، وتتحول بدورا الى عوامل اكثر تأثيرا في هذا الموضوع من نتائج الانتخابات نفسها.
اسباب عدم الحسم
اهم هذه الاسباب يمكن تلخيصه على الشكل التالي:
ـ لقد اعطت نتائج الانتخابات النيابية الرئيس رفيق الحريري تفوقا كبيرا على غيره من الشخصيات السنية لكي يكون المرشح الابرز لهذا المنصب، الا ان هذا التفوّق لم يكن حاسما، فاذا كان الكثير من الزعماء في طائفة رئيس الحكومة خسروا في الانتخابات (سليم الحص ، تمام سلام) او خرجوا منها ضعفاء (عمر كرامي ) فان هناك شخصيات لا تزال موجودة بعد الانتخابات (سامي الخطيب، ومصطفى سعد) او انها قويت كثيرا خلالها (نجيب ميقاتي) ما يعني ان الساحة لم تخلُ تماما للرئيس الحريري.
ـ ان نتائج التي افرزتها الانتخابات تعطي للرئيس الحريري مع حلفائه كتلة من النواب في المجلس الجديد تتراوح بين خمسين وستين نائبا مقابل وجود عدد كثير من النواب الذين لا يعطون اصواتهم للحريري نهائيا وهم يؤدون دورا حاسما في الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة، وليس هناك ما يضمن ان يكون مرشحهم هو الحريري.
ومن قال ان رئيس الحكومة ينبغي ان يكون (زعيم الاغلبية النيابية) في مجلس النواب، لقد شهد لبنان العديد من الحالات التي كان فيها رئيس الحكومة من خارج المجلس النيابي اصلا، (سليم الحص في حكومته الاولى، شفيق الوزان، رشيد الصلح) واذا كان قد حصل قبل اتفاق الطائف فان الظروف اذا حكمت يمكن ان تقوم بدورها في تكرار هذه الحالة مع توافر بعض المعطيات المرجحة ويمكن عندها ان يأتي عدنان القصار (رئيس اتحاد غرفة التجارة والصناعة والزراعة)، كما هو متداول بقوة في الاوساط السياسية او غيره من الاسماء التي يمكن ان يتوافق عليها في أي لحظة.
ـ ثم ان هناك الدور الاقليمي ومدى رضاه عن هذا المرشح او ذاك. فصحيح ان سوريا اتخذت قرارا حاسما بعدم التدخل في تسمية المرشح لرئاسة الحكومة، ولكن هذا لا يمنع في انها تملك (حق الفيتو) النابع من حرصها على عدم تفجر البلاد ووصولها الى حالة من الازمة السياسية اولا، والمستندة ايضا الى التزامها بالامن اللبناني بما هو جزء لا يتجزأ من الامن القومي السوري.
اخيرا هناك موضوع (رغبة)، فالعماد لحود هو رئيس البلاد الذي يملك حتى الان تفويضا شعبيا واسعا، ويحق له ان يأتي برئيس حكومة يمكن ان ينسجم معه في المرحلة المقبلة من اجل انقاذ البلاد من الازمات السياسية والاقتصادية التي تعاني منها.
بعد الرئيس.. الحكومة
الا ان قضية تحديد رئيس الحكومة المقبل ليست المسألة الوحيدة التي تشغل بال الوسط السياسي اللبناني في المرحلة المقبلة، وانما هنالك موضوع ايضا وهو شكل هذه الحكومة، عدد وزرائها، الشخصيات التي ستتمثل فيها والبرنامج التي ستعمل على تحقيقه.
السؤال الاول الذي يسمع في الشارع اليوم هو: هل ستكون الحكومة المقبلة حكومة سياسية ام تكنوقراطية: ام انها حكومة تكنوسياسية؟
وبعد هذا تكر الاسئلة:
هل ستكون حكومة (وفاق وطني) تضم جميع الاقطاب، بغض النظر عما بينهم من خلافات، ام انها يجب ان تكون حكومة منسجمة تستطيع بتآلف وزرائها وتوحدهم ان تتخذ القرارات اللازمة بسرعة لتنفيذها بسرعة، من اجل تمرير القطوع الاقتصادي التي تعيشه البلاد؟
هل سنعود الى عهد الحكومة المنفلشة (30 وزيرا)، ام اننا سنبقى في عهد الحكومات المتقشقة (16 وزيرا)، ام ان الحكومة المقبلة ستكون حكومة “بين ـ بين” (22 او 24 وزيرا)؟
من سيتولى الحقائب الاساسية، هل هو مرشح هذه المرجعية او تلك، وهل سيكون من هذه الطائفة او تلك؟
هل سيكون هناك توازن بين رئيس الحكومة ووزرائه، ام سيكون الوزراء اقوى من رئيسهم، ام انهم سيكونون مجرد موظفين عند هذا الرئيس؟
ثم ما هو البرنامج الذي ستسير عليه الحكومة.. هل هو استعادة لبرنامج “الانفلاش الاعماري” ام هو استمرار لسياسة التقشف التي تؤدي الى الجمود؟ ام ان هناك خطا ثالثا بين هذا وذاك، يستطيع اجتراح الحلول التي لم يهتدِ احد اليها حتى الان؟
كل هذه الاسئلة المطروحة تنتظر اجاباتها من الطريق الذي ستسلكه الاتصالات البعيدة عن الاضواء، التي تجري حاليا من اجل الوصول الى قواسم مشتركة بين الرؤى المختلفة التي تسود لدى هذا الطرف او ذاك.
واذا كان سطح السياسة اللبنانية يبدو راكدا بعد طول فوران اثر الانتخابات النيابية، فان التيارات المستعرة في الاعماق تزداد حركة، وهي تتضارب وتتلاقى في ما بينها، وصولا الى صيغة لا بد من ان يقنع بها الجميع، والا.. فان البلاد تسير فعلا الى المجهول.
محمود ريا