الجمعة 01/09/2000 :
اذا كانت معارك الشمال الانتخابية متفاوتة المعالم على مستوى التفاصيل والأسماء والمناطق، فهناك ما يجمع بين اختلافاتها ويمحو الفوارق بين تفاصيلها ومفرداتها، ألا وهو هيمنة عنصر المال على المعركة، ففاز من يملك اموالاً اكثر، وخسر من لم يستطع تأمين قوة مالية يستند اليها في معركة كسر عظم سيكون لها تأثير كبير في رسم صورة المنطقة.
وفي قراءة اجمالية للمعركة الواحدة ذات المسرحين التي دارت في المحافظة، يمكن الوقوف عند بعض الملاحظات:
ـ نجح كل من يملك رصيداً مالياً كبيراً، وبقدر ما كان الرصيد المالي أكثر ضخامة كان عدد الاصوات التي حصل عليها المرشح اكثر، حتى ليكاد يمكن ترتيب الفائزين حسب رصيدهم المالي لولا بعض الاستثناءات.
ـ أثبت الرئيس رفيق الحريري انه لاعب كبير في الشمال كما هو في بيروت وفي مناطق “منتقاة” اخرى، سواء بشكل مباشر من خلال المرشحين الذين يحملون شعار تيار المستقبل، او بشكل غير مباشر عبر الحلفاء والمقربين.
ـ خسر الرئيس عمر كرامي مرجعيته في الشمال ـ وعاصمته تحديداً ـ وإذا كان في العام ستة وتسعين عاش تجربة الكبوة، فهو في العام 2000 يكاد يصل الى قناعة مفادها ان الشمال لم يعد ملعبه.. حتى اشعار آخر.
ـ الخاسر الاكبر في معركة الشمال هو الجماعة الاسلامية التي لم تعد ممثلة في مجلس النواب ـ على الاقل حتى انجلاء نتائج معركتي بيروت والجنوب، وإن كانت المؤشرات في هاتين الدائرتين غير مشجعة ـ وبرغم كونها تملك كتلة ناخبة لا يُستهان بها، فإن تشرذم هذه الكتلة وتردد قيادتها ادى الى نتيجة لا تسر صديقاً. والخلاصة، يمكن القول ان “المستقوين” في الشمال ازدادوا قوة، فيما الذين كانوا يعانون من بوادر التراجع يكادون يصبحون في زوايا النسيان.
الدائرة الاولى
لقد تميزت نتائج المعركة الانتخابية في الدائرة الاولى (عكار ـ بشري ـ الضنية)، بالكثير من الظواهر اللافتة التي يمكن الوقوف عندها.
فاللائحة الاولى الائتلافية التي كان متوقعاً لها ان تفوز كاملة لكونها تشكل تجمع الاقوياء في المنطقة، شهدت سقوط عدد من مرشحيها مقابل فوز مرشحين من اللائحة الثانية او منفردين، الامر الذي اعتُبر انتكاسة ـ الى حد ما ـ لرئيس اللائحة النائب عصام فارس، الذي لم يحقق عدداً متميزاً من الاصوات عن غيره من المرشحين. والذي حقق هذا العدد المتميز هو المرشح المنفرد أحمد فتفت، الذي كان حتى ما قبل يومين من الانتخابات على اللائحة، قبل ان ينسحب منها في اليوم الذي سبق الانتخابات مباشرة، احتجاجاً على ضم المرشح عبد الناصر رعد الى اللائحة.
وقد شكل فوز فتفت بهذه الارقام اشارة واضحة الى مدى تغلغل ونفوذ الرئيس رفيق الحريري في المنطقة.
ملاحظة اخرى تمثلت بحصول النائب خالد ضاهر ـ الذي ترشح مستقلا بعد ان حجبت الجماعة الاسلامية عنه حق تمثيلها ـ على عدد من الاصوات اكبر من الذي حققه مرشح الجماعة الرسمي اسعد هرموش، الذي كان على اللائحة الاولى، فلم يفز لا بدعمها ولا بدعم كتلة الجماعة، فخرج من المنافسة.
ويؤشر هذا الواقع الى وجود ازمة في خيارات الجماعة وقرارها، وقد عزاها احد المطلعين على الوقائع الى رضوخ قيادة الجماعة للاغراءات التي عُرضت عليها، فتخلت عن مرشح مضمون في عكار مقابل القبول بمقعد يشهد منافسة كبيرة في قوى “غولية” في الضنية، ما ادى الى خسارة هذه المنافسة.
ملاحظة اخرى على نتائج الدائرة الاولى تتمثل في نجاح ابناء وادي خالد في ايصال مرشحيهما الاثنين الى المجلس النيابي، وذلك من خلال التنسيق الذي حصل بين المرشحين بمعية اهالي الوادي. وشكل ذلك درسا لكل القوى حول كيفية العمل من اجل تحقيق نتائج ايجابية. وقد جاء هذا الدرس من حيث لا يتوقع “الاقوياء”.
غياب طلال المرعبي ومعه كل ارث آل المرعبي النيابي عن مجلس النواب، شكل بدوره ظاهرة لافتة، وهو يدل على متغيرات اجتماعية عميقة في منطقة عكار التي كان آل المرعبي على الدوام ـ بصفتهم بكوات المنطقة ـ يمثلونهم في مجلس النواب.
على صعيد منطقة بشري، فإن خرق جبران طوق للائحة ـ برغم ضعف المشاركة البشراوية في الانتخابات ـ شكل دليلا على وجوده الشخصي على الارض في منطقة الشمال بشكل عام.
باختصار، فإن مصدرا مراقبا لما جرى في دائرة الشمال الاولى، يؤكد لـ”العهد” ان ابناء الدائرة شكلوا لوائحهم الخاصة، ولم يلتزموا بأي لائحة بشكل كامل، وهذا ما انعكس واضحا في نتائج الانتخابات.
الدائرة الثانية
خرقان فقط في لائحة “التضامن والانماء”، نتيجة كبيرة لهذه اللائحة التي ضمت تجمعا من الاقوياء ـ الاقوياء على مختلف الصعد: المالية، السياسية والزعاماتية.
لقد ضمت اللائحة جماعة من القوى الكبرى SUPER POWER على امتداد الدائرة الثانية (طرابلس ـ المنية ـ زغرتا ـ البترون والكورة)، وحصلت على دعم مطلق من الرئيس رفيق الحريري، فكان ان حققت نتيجتها دون كبير عناء .
في المقابل وقفت لائحة “الكرامة الوطنية” عاجزة امام اجتياح القوة والمال ـ والسلطة ربما ببعض جوانبها الخفية ـ ولم تشفع شخصية الرئيس عمر كرامي ولا ارث آل معوض في تأمين قاعدة ثابتة يستطيع المرشحون الاخرون على اللائحة الاستناد اليها، فكان الفوز فقط من نصيب الرئيس عمر كرامي والنائب نايلة معوض، وذلك في استعادة لاجواء معركة العام 96.
الرئيس كرامي على وشك اعلان موقف حاسم من هذه المعركة التي وصفها اكثر من مرة بالاجتياح الهادف الى اسقاطه هو شخصيا، اضافة الى القضاء على زعامته في الشمال. وهذا الموقف سيكون بالتاكيد أقوى من موقفه المقاطع لمجلس النواب عام ستة وتسعين.
مصادر مقربة من الرئيس كرامي اكدت لـ”العهد” ان “الافندي” تعرض لضغوط رهيبة من اجل ادخال هذا المرشح او ذاك في لائحته، ولأنه رفض هذه التدخلات صدر قرار معاقبته الذي نُفذ باجتياح الصناديق
.
وتضيف المصادر: لو ان الضغوط التي مورست على الرئيس كرامي استهدف جزء منها فقط رئيس اللائحة المقابلة لكان ترك لبنان وسافر مباشرة الى اوروبا.
بعد “تحييد” الرئيس كرامي، دارت المعركة في دائرة الشمال الثانية بين اعضاء اللائحة الثانية، فكان التشطيب سيد الموقف، ولا سيما بين مرشحي طرابلس، فيما كان المرشح المنفرد مصباح الاحدب يحظى بدعم غير عادي من تيار الرئيس الحريري، فحقق هذا الدعم فوزا للأحدب، لكن على حساب زميله احمد كرامي، الذي تحدث عن خيانة تعرض لها.
الخاسر الاكبر كان بلا شك مرشح الجماعة الاسلامية عبد الله بابتي، وربما لم تكن هذه الخسارة مفاجئة منذ اخذت الجماعة تتردد في مواقفها بين ان تكون عمادا للائحة الاولى او ان تصبح عضوا بين اقوياء اللائحة الثانية، وبين هذه اللائحة وتلك ضاع المنفردون، برغم ان بينهم اسماء لافتة كالوزير السابق عمر مسقاوي، فلم يتمكنوا من تحقيق أي اختراق او حتى مستوى عال من الاصوات.
انتهت معركة طرابلس ودائرتها الى نتيجة اساسية، وهي وقوف الرئيس عمر كرامي امام قرار حاسم حول مشاركته في المجلس النيابي والحياة السياسية، وبروز زعامة جديدة هي الرئيس نجيب ميقاتي الذي يعد مرشحا بارزا لرئاسة الحكومة ـ بما يشكل تهديداً لحليفه الانتخابي الرئيس رفيق الحريري ـ فيما كرس الوزير سليمان فرنجية نفسه زعيماً لمسيحيي الشمال، حيث استطاع ان ينجح كل المقربين منه ـ ما عدا اسطفان الدويهي ـ اضافة الى قريبه كريم الراسي في الدائرة الاولى.
هذه النتائج كلها ستشكل اساسا جديدا لصورة مختلفة لمنطقة الشمال هي تفصيل مهم في الصورة اللبنانية بمجملها، التي يبدو أنها تُركب من جديد.
محمود ريا